Wednesday, May 30, 2007

اشكالية العلم والدين عند الحداثيين الشبهة التي لم يدفعها احد عن عميد الادب العربي

أحمد حسين
كاتب أردني
جريدة الغد

قال تعالى:(وما فرطنا في الكتاب من شيء) تعني هذه الآية من ضمن ما تعنيه ايضا ان القرآن يدخر جوابا لمن قال الله فيهم: (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق)(الكهف/56) وفي موضع آخر ايضا (يريدون ان يطفئوا نورالله بافواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) (الصف/ 8).. فغرّهم ما فتح الله عليهم من علم يسير فتجرأوا على دين الحق الذي انزله الله على عباده, فاستجمعوا (كِبْرهم) لاخضاع علم الله وما نزل على الرسل من علم السماء وخبرها للنقد ولمنهج الشك الذي زين لهم رفض كل ما لايؤيده دليل (علمي) قطعي, واعتبار كل ما لا يتقبله العقل البشري وما لا يتفق مع الحقيقة العلمية مجرد خيال لا يستحق الايمان به, فاقحموا الدين فيما يدعونه اشكالية تضاربه مع العلم.

وسؤال "اشكالية العلم والدين" الذي ابتدعه عقل فولتير وديدرو وهولباخ وغيرهم من فلاسفة عصر النهضة الاوروبية، ربما يجد مبرراته في تحالف النظام الكنسي/الاقطاعي المتسلط على المجتمعات الاوروبية الذي عطل العقل الاوروبي وفرض عليه قطيعة معرفية وحياة اجتماعية واقتصادية لا تطاق فاستعر الغضب الاوروربي الذي قاده رواد النهضة الاوروبية، واسفر عن فصل الدين عن الدولة والحياة دون الالتفات الى تبعات هذا الانقلاب على القيم الاجتماعية وقيمة الاشباع الروحي والعقائدي وغيرها من القيم الانسانية التي لم يكن عيبها في الدين ولكن فيمن نصبوا انفسهم عليه.

ورغم ان حالة الظلام المعرفي والتجهيل التي سادت اوروبا في القرون الوسطى انتجت فلاسفة ومفكرين ذوي ميول انتقامية من كل ما له علاقة بالدين، فقد برز علماء من مختلف التخصصات العلمية يدحضون فكرهم ويفندونه: فقد كتب كل من: جورج ايرل بعنوان "الكشوف العلمية تثبت وجود الله" و توماس ديفيد في كتابه"الماء يروي لك القصة"، ورسل لويل "الخلايا الحية تؤدي رسالتها" وجورج هربرت "منطق الايمان" وجون ادولف "الله والقوانين الكيماوية" والبرت ونشستر "العلوم تدعم ايماني" وادوين فاست "نظرة الى ما وراء القوانين الطبيعية"

غيرهم، ممن يزدحم بهم الكتاب الذي جمعهم بعنوان "الله يتجلى في عصر العلم". اقول: لقد اقر كل هؤلاء ان (العلم) بدا عاجزا عن تقديم اجابة للاسئلة الكبيرة التي برزت في نهايات بحوثهم العلمية وان اقصى ما انتهى اليه كل واحد منهم ان النتيجة العلمية ليس لها علاقة بـعلم البشر، وان الايمان بما وراء القدرة الآدمية والقوانين الطبيعية بدأ يفرض منطقه, وعند هذه النقطة التي حيرت كلا منهم ظهر الدليل جليا وساطعا على تماهي العلم بالدين.

بل ان ديكارت نفسه رائد الفلسفة الشكية انصت لقلبه ايضا دون ان يعطل عقله فخالف من يقولون ان الدين والعلم, الايمان والعقل, لا بد ان يعزل احدهما الآخر, فقرر دون لبس او مواربة ان احد شروط الشك المنهجي هو استثناء العقائد الايمانية من الشك باعتبارها اعلى مراتب اليقين.

وديكارت لم يكن الوحيد من بين هؤلاء الذي نطق بما املته عليه شفافية العلم وامانته, فقد بشر لوك فيري, الفيلسوف الفرنسي المعاصر ايضا بان (المعنى), او الحس المقدس والايمان هو واحد من "رهانات المستقبل الاساسية" للبشر في عصر الثورة الرقمية والجينية, وانتهى الى ان ما يميز جوهر الكائن البشري عن الحيوان هي هذه القدرة على (الاقتلاع), او ان شئتم, هذا الانفصال عن الحياة والحيوانية, اي القدرة على التفكير في المقدس اننا, هكذا قال, لا نستطيع في مجتمعاتنا (العلمانية) اليوم ان نستغني عن المقدس.

بالنسبة لهؤلاء العلماء والفلاسفة, الاشكالية ليست في تنافر العلاقة بين العلم والدين ولكنها في العقل البشري العاجز عن ادراك ماهية النهايات القصوى للعلم ليبدو ان سؤال الدين الذي اثاره دعاة ومفكري الحداثة وما بعد الحداثة تكمن اجابته في فهم وتأمل هذه النهايات التي حيرت خيرة العلماء والفلاسفة ثم ادهشتهم.

وفي هذا الامر ايضا فقد اخطأ طه حسين ايضا, كمثال آخر للحداثيين العرب, اذ اقحمنا واياه في احجية ثنائية القديم والجديد, العلم والدين, العقل والنقل, المقدس والموروث, الشك واليقين.. فلا هو افلح في ان يكون اسبينوزياً في ديكارتيته, ولم ينج في الوقت ذاته من شبهة ضبطه متلبسا في التناقض اذ كتب:" .. والحق ان هذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قائمة ما قام العلم وما قام الدين, لان الخلاف بينهما اساس جوهري لا سبيل الى ازالته ولا الى تخفيفه الا اذا استطاع كل منهما ان ينسى صاحبه نسيانا تاما ويعرض عنه اعراضا مطلقا.. واذاً فليس من الحق في شيء ان يقال ان العلم والدين متفقان, كلا ليسا متفقين ولا سبيل الى ان يتفقا الا ان ينزل احدهما لصاحبه عن شخصيته كلها". فكان ومن شايعه في رأيه من دعاة الحداثة العرب كمن قال فيهم الله عز وجل(ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم , والله يعلم وانتم لا تعلمون) (66 /آل عمران).

ان هناك من الاسباب, سببا من وراء سبب, ما يكفي لتحويل الحكم على كل ما قاله طه حسين في هذه المسألة من مجرد (تناقض) فكري بريء الى (شبهة) لم يستطع هو دفعها عن نفسه.

فبحكم دراسته وتخصصه وابحاثه في الادب العربي عامة والجاهلي بخاصة هو الاقرب الى فهم القرآن الكريم نصا ولغة وبيانا وفقها, وان من يفهم القرآن لغة وبيانا كما يتلا دون تحريف لمعانيه او تأويل لآياته (يحرفون الكلم عن مواضعه) (المائدة /13) فانه في غير حاجة لاستحضار دليل على: عدم اشتباكه مع العلم, وعدم تناقض نصوصه واحكامه, وان الغيب الذي ورد فيه (خبر ابراهيم عليه السلام مثالا) هو فرع من فروع العلم لم يتسن للانسان اكتشاف الدليل على صحته وهنا والله يكمن سر الايمان (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) (البقرة /3).

ثم ان اللغة كونها اداة ووعاء المعلومة القرآنية مثلما هي وعاء للعلوم الطبيعية هي فرع آخر من فروع العلم المختلفة ان لم تكن من ارقاها على الاطلاق للاسباب التالية: 1- كونها الاداة التي لولاها لما كان هناك علوم تجريبية او انسانية.. 2- اتصافها بالاعجاز كغيرها من قوانين العلوم الاخرى.. 3- واحد من اسباب الاعجاز القرآني العديدة ان لغته محملة بعلم فوق علم البشر والجن ايضا. فكيف يتفق والحال هذا ان يتناقض او يتنافر او يشتبك القرآن والعلم وكلاهما محمول بالوعاء ذاته? الجواب الوحيد لاختلافهما هو ان يكون وعاء احدهما غير يقيني, وهو بكل تأكيد سيكون هنا وعاء علم المشككين لا غيره.

اما من حيث الغمز الى عدم تحميل الآيات القرآنية فوق ما تحتمل والنأي بها عن فلسفة العلوم الاخرى كون القرآن كتابا سماويا ثابتا بينما العلوم الاخرى متغيرة ما يضع الدين بالتالي في حراجة التغير.. فهو كلام حق اريد به باطل ولا ينفي صفة العلم عن القرآن لانه (كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) (هود 1).. وفي موضع آخر (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم) (الاعراف/ 52) ما يعني بالتالي ان على العلوم المتغيرة التي يحتجون بها ان تسمو الى الثابت المقدس وان ينتمي الجزئي الى الكل المطلق.

ان الآيات الكريمة: (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون) (الانبياء 63) و(وما لهم به من علم وان الظن لا يغني من الحق شيئا) (النجم /28) و(الم تر الى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا) (الفرقان 45) و(ما لكم كيف تحكمون) (القلم 35) والتكرار المقصود للتساؤل (افلا تعقلون) في نهاية الكثير من الآيات ومثلها الآيات التي تحث على التفكر.

ان هذه الآيات وغيرها مما يعجز المقام عن ذكرها وحصرها تعرض على مسامعنا صباح مساء منذ ما قبل النهضة الاوروبية والثورة العلمية بمئات السنين منهج النقد الايجابي، وشرائط البحث العلمي المتعارف عليها بدءا من السؤال والاندهاش ثم الاستقراء والملاحظة والبحث والتجريب. ما يؤكد ان العلم والدين في الاسلام لا تنافر بينهما بل ان احدهما ينتهي بالضرورة عند الآخر بانسجام تام ودون اشكال ذلك انهما يتنزلان من مصدر علوي واحد هو الله سبحانه وتعالى, غير ان الدين كونه علما الهيا فقد تنزل على الرسل والانبياء منزها عن منهج الشك والتجريب وشرائط البحث العلمي (الارضي) لسببين: اولهما.. كمال محتوى التبليغ والرسالة وخلوه مما يعيبه. وثانيهما: ان مقتضى حال التبليغ والرسالة لا يحتمل تدخلا بشريا مشوبا بالشك والتجريب كونه سماوياو من الله لعباده .

ان المسألة لا تكمن في رفض الدين للعلم, ولا في (اشكالية او تشابك الدين والعلم!) كما عرضها اؤلئك , ولكن اغلب الظن انها تكمن في (اسبابهم) التي جعلتهم ولايزالون يرمون الدين بما رموه.. ليأتي اتفاق طه حسين والفيلسوف الالماني اليهودي ادموند هوسيرل في عشرينيات القرن الماضي على بعث واحياء فلسفة ديكارت الشكية في دراساتهما وابحاثهما الادبية تتويجا للشبهة التي لم تجد من يدفعهاعن عميد الادب العربي حتى الآن.

No comments:

Post a Comment

اتفاقية 1970: التنوّع الثقافي قبل الآوان

تعتبر اتفاقية اليونسكو، التي اعتُمدت سنة 1970، أداة قانونية رائدة في مكافحة النهب والاتجار غير المشروع، وقد مهّدت الطريق أمام حق الشعوب في ا...