موقِفُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم من مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رضيَ اللهُ عنهما...
الشيخ الدكتور سُلطان بن عبدالرحمن العميري
لعلَّ الصحابيَّ مُعاويةَ بنَ أبي سُفيانَ رضيَ اللهُ عنه يُعَدُّ من أكثَرِ الشخصياتِ الإسلاميةِ التي دارَ حولَها الجدَلُ في التاريخِ.
فقد اختلفَتِ فيه المواقفُ، وقامتْ حول تقييمِ شَخصيتِه معاركُ فِكريَّةٌ طاحِنةٌ، وزاغَ فيه طَرَفانِ: طرَفٌ غَلا في حُبِّه والانتصارِ له، وطرَفٌ غلا في بُغضِه وكُرهِه والتحذيرِ منه، بل وصَلَ إلى الحُكمِ عليه بالكُفرِ والنِّفاقِ!!
وهذان الطرفانِ وُجِدا منذُ زَمنٍ مُبكِّرٍ في التاريخِ الإسلاميِّ، وفي وصفِ حالةِ الصراعِ بين هذينِ الطريقينِ يقولُ المؤرِّخُ الذَّهبيُّ في كلامٍ هادئٍ ومُتعقِّلٍ: "وخلْفَ مُعاويةَ خَلْقٌ كثيرٌ يُحبِّونَه ويَتغالَوْن فيه ويُفضِّلونه، إمَّا قد ملَكَهم بالكَرَمِ والحِلمِ والعَطاءِ، وإمَّا قد وُلِدوا في الشَّامِ على حُبِّه، وتَربَّى أولادُهم على ذلك. وفيهم جَماعةٌ يَسيرةٌ من الصحابةِ، وعدَدٌ كثيرٌ من التابعين والفُضَلاءِ، وحارَبوا معه أهلَ العِراقِ، ونَشَؤوا على النَّصْبِ، نعوذُ باللهِ من الهَوى، كما قد نشَأَ جيشُ عليٍّ رضيَ اللهُ عنه ورعِيَّتُه -إلا الخَوارجَ منهم- على حُبِّه والقيامِ معه، وبُغضِ مَن بغى عليه والتبرِّي منهم، وغَلا خلقٌ منهم في التشيُّعِ"(1).
وبلَغَ الحالُ بالأطرافِ الغاليَةِ في مُعاويةَ إلى درَجةِ أنَّ كلَّ طرَفٍ حاولَ أن يضَعَ أحاديثَ على لِسانِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُقوِّي بها مَوقِفَه، ولكنَّ هذه العمليةَ الدَّنيَّةَ لم تَنطَلِ على عُلَماءِ الحديثِ؛ فتنبَّهوا لها، وحذَّروا منها، وكشَفوا عن حقيقتِها، ومحَّصوا الحديثَ الصحيحَ من الضعيفِ ممَّا رُوِيَ في شأنِ معاويةَ رضيَ اللهُ عنه.
وفي التنبيهِ على ذلك يقولُ ابنُ الجَوزيِّ: "قد تعصَّبَ قومٌ ممَّن يَدَّعي السُّنَّةَ، فوضَعوا في فضلِه أحاديثَ ليُغضِبوا الرافضةَ، وتعصَّبَ قومٌ من الرافضةِ، فوضَعوا في ذَمِّه أحاديثَ، وكِلَا الفريقينِ على الخطَأِ القبيحِ"(2).
وفي مِثلِ هذه الحالِ يتحتَّمُ على الباحثِ الصادقِ مع نفسِه ومع فِكرِه أنْ يتَّصفَ بقدرٍ كبيرٍ من الهدوءِ النفسيِّ، وأن يلتزِمَ بتَرسانةٍ صُلْبةٍ من الأصولِ العقليَّةِ والمنهجيَّةِ؛ حتى لا يقَعَ في التناقُضِ أو الانتقاءِ أو الاختزالِ، وكلُّ هذه الأمورِ مخالفٌ للمنهجيَّةِ العِلميَّةِ الصحيحةِ.
ومن أهمِّ ما يجِبُ على الباحثِ الالتزامُ به هو أنْ يدخُلَ إلى البحثِ بنفسيَّةِ "الاحتياطِ الشديدِ"، التي تجعَلُه لا يقبَلُ أيَّةَ فِكرةٍ إلا بعد التأكُّدِ من صِحَّتِها في ذاتِها، والتيقُّنِ من فَهمِه لمَدلولِها السياقيِّ والتاريخيِّ؛ حتى يتمكَّنَ من الخُروجِ برؤيةٍ واضحةٍ ومُتوافقةٍ مع حالِ الشخصِ المختلَفِ فيه.
ولا يصِحُّ عقلًا ولا منهجًا أنْ يتساهلَ الباحثُ في اتخاذِ الموقِفِ من غيرِ أنْ يحقِّقَ الاحتياطَ ويتأكَّدَ من كلِّ بياناتِه.
وهذا الحكمُ ليس خاصًّا بمعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ، بل هو قاعدةٌ ومبدأٌ عِلميٌّ يُطبَّقُ على كلِّ إنسانٍ ولو كانَ من غيرِ المسلمين؛ فإنَّه لا يصِحُّ في العقلِ ولا في المنهجِ العلميِّ الصُّلْبِ أنْ يتَّخِذَ الباحثُ موقِفًا من أرسطو مَثلًا -وهو مِن الشخصياتِ التي دارَ حولَها جدَلٌ كثيرٌ -، ولا من مارتن لوثر -وهو أيضًا ممَّن احتدمَتِ المواقفُ حولَه- إلَّا بعد أن يحتاطَ في بَحثِه، ويتأكَّدَ من صحَّةِ الخبرِ الذي اعتمَدَ عليه، ومن صحَّةِ فَهمِه لكلِّ البياناتِ المنقولةِ، حتى يتمكَّنَ من بِناءِ الموقِفِ العادلِ.
ومع كَونِ هذه القاعدةِ عامَّةً في كلِّ الناسِ، إلَّا أنَّ أهميَّتَها تزدادُ، ويَقْوى وجوبُ الأخذِ بها إذا تعلَّقَ الأمرُ بالصحابةِ -رضيَ اللهُ عنهم-؛ لِمَا لهم من الشَّرَفِ والمكانةِ واللُّقْيا بالنبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- والعيْشِ معه، فهناك نصوصٌ وأدلَّةٌ عقليةٌ وحاليَّةٌ وتاريخيَّةٌ تدُلُّ على أنَّ الأصلَ فيهم العدالةُ والصدقُ والأمانةُ وقُوةُ اليقينِ، وقد فصَّلتُ ذلك في بحثٍ منشورٍ في عددٍ من المواقعِ الإلكترونيَّةِ بعُنوانِ (المَدخلُ المنهجيُّ للتعاملِ مع جيلِ الصحابةِ).
ولأجلِ تلك الثناءاتِ الشرعيَّةِ والمُعطَياتِ العقليَّةِ والتاريخيَّةِ كان للصحابةِ قَدرٌ كبيرٌ في نُفوسِ المؤمنين، ولهم من الحبِّ والتقديرِ والاحترامِ شيءٌ كبيرٌ جدًّا، وتعاملَ المسلمون معهم بقاعدةِ حُسنِ الظنِّ والسلامةِ من القوادحِ إلا بدليلٍ قويٍّ وظاهرٍ، ولهذا كانت ساحةُ الصحابةِ خَطِرةً جدًّا، ولا يجوزُ أنْ يخوضَ فيها المسلمُ بغيرِ عِلمٍ وعدلٍ واحتياطٍ وتأكُّدٍ وتريُّثٍ وسلامةِ صدرٍ.
وهذه المُعطَياتُ هي أحَدُ المُرتكَزاتِ التي أقامَ عليها عُلماءُ أهلِ السُّنَّةِ رأْيَهم في الأمرِ بالكفِّ عما شجَرَ بين الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم من خلافٍ، فرأيُهم ذلك لم يكُن مُجرَّدًا من الحُججِ الداعمةِ، ولا خاليًا من المُؤكِّداتِ، إنما هو منسجِمٌ مع الدَّلالاتِ الشرعيَّةِ والتاريخيَّةِ والعقليَّةِ الدالَّةِ على فضلِ الصحابةِ وعُلوِّ شَأنِهم وسلامةِ حالِهم.
والتقريرُ السابقُ يُؤكِّدُ على أنَّ الاحتياطَ والتأكُّدَ في شأنِ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رضيَ اللهُ عنه يجِبُ أنْ يكونَ أَقْوى وأعلى؛ لأنَّه أولًا من الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم, ولأنَّ الخلافَ مُحتدِمٌ حوله، وهذا يتطلَّبُ قَدْرًا زائدًا من الاحتياطِ الشديدِ.
ولكنَّ هناك مَن لم يلتزمْ بقاعدةِ الاحتياطِ الشديدِ في التعاملِ مع الصحابيِّ معاويةَ رضيَ اللهُ عنه، فأخَذَ يتساهلُ إمَّا في الثُّبوتِ، أو في الفَهمِ، واعتمَدَ على قِصصٍ وأخبارٍ منقولةٍ في ذمِّ معاويةَ وبنى عليها أحكامًا جائرةً.
ومن أمثلةِ ذلك: القولُ بأنَّ معاويةَ كان يبيعُ الأصنامَ للهندِ في زمَنِ عُثمانَ رضيَ اللهُ عنه، والقولُ بأنَّ معاويةَ كان يشرَبُ الخَمرَ، وغَيرُها من التُّهمِ، بحُجَّةِ أنَّ هذه الأخبارَ رواها عددٌ من العلماءِ في مُؤلَّفاتِهم الحديثيَّةِ أو التاريخيَّةِ.
وكُلُّنا يعرِفُ أنَّه ليس كلُّ ما ذُكِرَ في كتُبِ التاريخِ والأخبارِ صحيحًا مقبولًا، بل فيها من الضعيفِ والباطلِ الشيءُ الكثيرُ ، وفضلًا عن ذلك فإنَّا لو قُمنا بفَحصِ تلك الأخبارِ المنقولةِ في ذمِّ معاويةَ؛ فإننا سنكتشفُ أنَّها أخبارٌ باطلةٌ في أسانيدِها، وفيها من العِللِ الحديثيَّةِ ما يدُلُّ على بُطلانِها(3)، فضلًا عما فيها من مخالَفةٍ للأحاديثِ الصحيحةِ التي ثبتَتْ في فضلِ معاويةَ رضيَ اللهُ عنه، فضلًا عما يُخالِفُها من الأدلَّةِ العقليَّةِ التي سيأتي ذِكرُها في أثناءِ البحثِ.
وهذا التساهلُ سيؤدي بنا إلى نتائجَ باطلةٍ مخالفةٍ للمنهجيَّةِ العِلميَّةِ؛ لأنَّ ذلك التساهُلَ سيفتَحُ البابَ أمامَ مَن يَغلو في معاويةَ ليستدِلَّ بالأخبارِ الضعيفةِ على إثباتِ فضائلَ لا تثبُتُ له، وهذا أمرٌ غيرُ مقبولٍ؛ لأنه كما أنه لا يصِحُّ التساهلُ في إثباتِ القوادحِ في الشخصِ المختلَفِ في حالِه؛ فإنه لا يصِحُّ التساهلُ أيضًا في إثباتِ الفضائلِ له.
ويفتَحُ البابَ أمامَ مَن يُبغضُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ وغيرَه من الصحابةِ، ليستدلَّ بأخبارٍ وآثارٍ ضعيفةٍ وغيرِ مُحقَّقةٍ ليقدَحَ بها في صحابةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
والطريقةُ المنهجيَّةُ الصَّحيحةُ هي أنْ نلتزمَ بالاحتياطِ الشديدِ في كلِّ ما يتعلَّقُ بالصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم، وخاصَّةً مَن وقَعَ الجدَلُ والاختلافُ في حالِهم، فلا نُثبِتُ لهم من الفضائلِ إلَّا ما هو مُتَحقَّقٌ من صِحَّتِه وثُبوتِه، ولا نُثبتُ لهم من الذمِّ إلَّا ما هو مُتَحقَّقٌ من ثُبوتِه.
يتميَّزُ جيلُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم بخاصيَّةٍ لا توجَدُ لغيرِهم، وهي أنَّهم عاشروا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعاشوا معه، والتقَوْا به، وتحدَّثوا إليه، وتحدَّثَ إليهم، وسافرَ معهم، وسافروا معه، وارتبَطوا به بعلاقاتٍ عديدةٍ ، سواءٌ مَن آمَنَ قبلَ الفتحِ منهم أو مَن آمَن بعدَه، وهذا الحالُ التعايُشيُّ يَستلزمُ بالضرورةِ أنْ يَصدُرَ من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مواقفُ وأحكامٌ ومشاهدُ تتعلَّقُ بمَن عاشَ معه.
ولهذا فإنَّ أفضلَ طريقٍ، وأسْلَمَ سبيلٍ، وأتقَنَ مسلَكٍ لبناءِ موقفٍ عادلٍ عن الصحابةِ هو الرجوعُ إلى ما جاءَ في نصوصِ الشرعِ المُطهَّرِ عنهم، فإنه سيكونُ بلا شكَّ أصدَقَ بُرهانٍ وأعلى بيانٍ.
وليس هناك مِن شكٍّ في أنَّ معاويةَ بنَ أبي سُفيانَ جاءتْ في شأنِه أخبارٌ عديدةٌ تدُلُّ على فضلِه ومَنقبَتِه، ومن ذلك: كونُه كان كاتبًا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ(4)، ومن ذلك قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن معاويةَ: "اللهُمَّ اجعلْه هاديًا مَهديًّا"(5)، ومن ذلك: حديثُ أمِّ حرامٍ بنتِ مِلحانَ قالتْ: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: "أوَّلُ جيشٍ من أمَّتي يَغزون البحرَ قد أَوْجَبوا"، قالت أمُّ حَرامٍ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنا فيهم؟ قال: "أنتِ فيهم". ثم قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أوَّلُ جيشٍ من أُمَّتي يَغزون مدينةَ قَيصَرَ مغفورٌ لهم"، فقلتُ: أنا فيهم يا رسولَ اللهِ؟ قال: لا"(6).
فهذه النُّصوصُ الصحيحةُ وغيرُها استنبَطَ منها عُلَماءُ أهلِ السُّنَّةِ عددًا من مناقبِ مُعاويةَ وفضائلِه، وشرَحوا ذلك في مُؤلَّفاتِهم الحديثيَّةِ والعقَديَّةِ.
ومن الطُّرُقِ العميقةِ والمُتقَنةِ التي تساعدُ على بناءِ المواقفِ العادلةِ من الأشخاصِ: البحثُ في مواقفِ أصحابِه وأقرانِه ومَن عاشوا معه وخَبَروا حالَه، وتزدادُ أهميَّةُ هذا الطريقِ إذا كان الأصحابُ هم الصحابةَ رضيَ اللهُ عنهم، فإنَّهم الأتقى قُلوبًا، والأزكى نفوسًا، والأعلمُ بدينِ اللهِ، والأكرمُ أخلاقًا، والأحرصُ على شريعةِ اللهِ، والأشجعُ في بيانِ الحقِّ والكشفِ عن الباطلِ، ولا تأخذُهم في اللهِ لومةُ لائمٍ، فمواقِفُهم من الأشخاصِ ستكونُ بالضرورةِ هي الأعدَلَ والأصحَّ والأكملَ.
إذا رجَعْنا إلى مواقفِ الصحابةِ الصحيحةِ نَجِدُها تدُلُّ على فضلِ معاويةَ وكَرمِه وحُسنِ سيرتِه، وتكشِفُ عن رِضاهم عنه وعن وِلايتِه، وتدُلُّ على نقيضِ ما يَنسُبُه إليه الغالون المبغِضون له من الكفرِ والنفاقِ والفِسقِ والخِداعِ؛ فعُمرُ بنُ الخَطَّابِ ولَّى معاويةَ خلَفًا لأخيهِ يزيدَ بعد موتِه على الشامِ، وهو آنَذاك ثَغرٌ من ثُغورِ المسلمينَ(7).
وقد بيَّنَ عمرُ بنُ الخطَّابِ مَنزلةَ أُمرائِه على الأمصارِ قُبَيلَ وفاتِه فقالَ: "اللهمَّ إنِّي أُشهِدُك على أُمَراءِ الأمصارِ، وإنِّي إنَّما بَعثْتُهُم عليهم لِيَعدِلوا عليهم، ولِيُعلِّموا الناسَ دينَهم وسُنَّةَ نبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَقسِموا فيهم فَيْئَهُم، ويَرفَعوا إلَيَّ ما أشكَلَ عليهم مِن أَمرِهم"(8).
فقد وثِقَ عُمرُ في معاويةَ ورضيَه واليًا على ثَغرٍ من ثُغورِ المسلمينَ، فلو كان معاويةُ كافرًا أو منافقًا أو فاسقًا أو غيرَ مأمونِ الدِّيانةِ، فهل يَقبَلُ به عُمَرُ أميرًا له على المسلمين؟ فإذا كان عمرُ لم يرضَ بكافرٍ أنْ يكونَ كاتبًا عندَ بعضِ أُمرائِه فكيف يُولِّي مَن هو كافرٌ منافقٌ؟!
وقد توقَّفَ عددٌ من العُلَماءِ عند موقِفِ عمرَ هذا، وعدُّوه دليلًا ظاهرًا على إيمانِ معاويةَ وحُسنِ سيرتِه، وفي هذا يقولُ الذَّهبيُّ: "حَسبُكَ بمَن يُؤمِّرُه عمرُ ثم عُثمانُ على إقليمٍ -وهو ثَغرٌ- فيَضبِطُه ويقومُ به أتمَّ قيامٍ، ويَرْضى الناسُ بسَخائِه وحِلمِه، وإن كان بعضُهم تألَّمَ مرَّةً منه، وكذلك فلْيَكُنِ المُلْكُ"(9).
ويكشِفُ ابنُ تيميَّةَ عن دَلالةِ فِعلِ عمرَ بكلامٍ مُطوَّلٍ فيقولُ: "لمَّا ماتَ يزيدُ بنُ أبي سُفيانَ في خلافةِ عُمرَ؛ استعملَ أخاه معاويةَ، وكان عمرُ بنُ الخطَّابِ من أعظَمِ الناسِ فِراسةً، وأَخبَرِهم بالرجالِ، وأقْومِهم بالحقِّ، وأعلَمِهم به... ولا استعمَلَ عمرُ قَطُّ -بل ولا أبو بكرٍ- على المسلمين منافقًا، ولا استعمَلا من أقاربِهما، ولا كان تأخُذُهما في اللهِ لومةُ لائمٍ، بل لمَّا قاتَلَا أهلَ الرِّدَّةِ وأعادوهم إلى الإسلامِ منَعوهم رُكوبَ الخيلِ وحَمْلَ السلاحِ، حتى تظهَرَ صحَّةُ تَوبتِهم، وكان عمرُ يقولُ لسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ وهو أميرُ العراقِ: لا تستعملْ أحدًا منهم، ولا تُشاورْهم في الحربِ، فإنهم كانوا أُمَراءَ أكابرَ مثلَ طُلَيْحةَ الأسَديِّ، والأقرَعِ بنِ حابسٍ، وعُيَيْنةَ بنِ حِصنٍ، والأشعَثِ بنِ قَيْسٍ الكِنديِّ، وأمثالَهم، فهؤلاء لمَّا تخوَّفَ أبو بكرٍ وعمرُ منهم نوعَ نِفاقٍ لم يولِّهم على المسلمين، فلو كان عمرُو بنُ العاصِ ومعاويةُ بنُ أبي سُفيانَ وأمثالُهما ممَّن يُتخوَّف منهما النفاقُ لم يُولَّوْا على المسلمين"(10).
وأما عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنه، فإنَّ مواقفَه الصحيحةَ تدُلُّ على أنه لا يحكُمُ على معاويةَ بالكفرِ والنفاقِ، بل يَعُدُّه مسلمًا عدْلًا، وتدُلُّ على أنَّه حفِظَ لمعاويةَ صُحبَتَه للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واعتبَرَ له اجتهادَه، فقد دارتْ بَينَه وبينَ مُعاويةَ حربٌ ضاريَةٌ دامت خمسَ سنَواتٍ، أُزهِقَت فيها أنفُسُ كثيرٍ من المسلمين، وأُهلِكَت فيها أموالُهم، فلو كان عليٌّ يعرِفُ من معاويةَ كُفْرًا أو نِفاقًا أو فِسقًا أو استخفافًا بالدينِ أو عدمَ مُبالاةٍ به أو بَيْعًا للأصنامِ أو شُربًا للخمرِ لذكَرَه وكشَفَه للناسِ وبيَّنَه لهم حتى ينصرِفَ الناسُ عن القتالِ والحربِ، ويقِيَ بذلك دِماءَ المسلمينَ، ولكنه لم يفعَلْ شيئًا من ذلك، بل ثبَتَ عنه أنه قال: "قَتْلايَ وقَتْلى معاويةَ في الجنةِ"(11)، وكان يدعو لأهلِ الشامِ بالمغفرةِ.
ولو قارنَّا بين حالِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنه مع الخوارجِ وبينَ حالِه مع معاويةَ وأهلِ الشامِ لوجَدْنا في ذلك دليلًا قويًّا على حُسنِ مَوقفِه من معاويةَ، فإنَّ عليًّا كان فَرِحًا بقتالِه للخوارجِ، وكان يُحدِّثُ الناسَ بالأحاديثِ التي ورَدَت عن النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ في شأنِهم، ويُقسِمُ لهم بذلك؛ لأنه يرى أنَّ قتالَه معهم مشروعٌ، مع أنه لم يكنْ يُكفِّرُهم، ولكنه في قِتالِه مع أهلِ الشامِ لم يكن كذلك، ولم يُظهِرِ الفرَحَ بذلك، بل كان مُتردِّدًا نادمًا حزينًا على ما أُهرِقَ فيها من دماءِ المسلمينِ(12)، ولم يُوافِقْه على قِتالِه معهم كثيرٌ من الصحابةِ واعتزلوا الفتنةَ.
فلو كان معاويةُ كافرًا أو فاسقًا أو منافقًا، فلماذا لم يكن عليٌّ فرِحًا بقِتالِه، ولماذا لم يشاركْ كثيرٌ من كِبارِ الصحابةِ في القتالِ؟! هل يُعقَلُ أنْ تقومَ حربٌ بين مسلمٍ وكافرٍ ثم لا يشارِكُ الصحابةُ مع المسلمِ في قتالِ الكافرِ؟!!
وإذا انتقَلْنا إلى موقِفِ الحسَنِ بنِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنه نَجِدُه كذلك يدُلُّ على ما يدُلُّ عليه صَنيعُ أبيه؛ فإنه تنازَلَ لمعاويةَ عن الحُكمِ، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد أثْنى على هذا الصَّنيعِ وبشَّرَ به، فقال: "إنَّ ابني هذا سيِّدٌ، ولعلَّ اللهَ أنْ يُصلِحَ به بين فئتينِ عظيمتينِ من المسلمين"(13).
وقد وافقَ الحسَنَ مَن كان معه من الصحابةِ كأخيه الحُسَينِ وغيرِه، وفي بيانِ هذا يقولُ الأَوْزاعيُّ: " أدركَتْ خلافةَ معاويةَ عِدَّةٌ من أصحابِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- منهم: سَعدٌ وأسامةُ وجابرٌ وابنُ عَمرَ وزيدُ بنُ ثابتٍ ومَسلَمةُ بنُ مَخْلَدٍ وأبو سَعيدٍ ورافعُ بنُ خَديجٍ وأبو أُمامةَ وأنَسُ بنُ مالكٍ، ورجالٌ أكثرُ ممَّن سمَّيْنا بأضعافٍ مُضاعفةٍ، كانوا مصابيحَ الهُدى، وأوعيةَ العلمِ، حضَروا من الكِتابِ تَنزيلَه، وأخَذوا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تأويلَه، ومن التابعينَ لهم بإحسانٍ -إن شاءَ اللهُ- منهم: المِسْوَرُ بنُ مَخْرَمةَ وعبدُ الرحمنِ بنُ الأسودِ بنِ عبدِ يَغوثَ وسعيدُ بنُ المُسيَّبِ وعُروةُ بنُ الزُّبَيرِ وعبدُ اللهِ بنُ مُحَيْريزٍ، في أشباهٍ لهم لم يَنزِعوا يَدًا عن مُجامعةٍ في أمَّةِ محمدٍ"(14).
فلوا كان معاويةُ كافرًا أو منافِقًا أو فاسقًا كيف يصِحُّ للحَسَنِ وللصحابةِ معه أنْ يتنازَلوا بالوِلايةِ له؟!! وكيف يمتدِحُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا الصَّنيعَ؟!! وكيف لهؤلاء الجُلَّةِ من الصحابةِ والتابعينِ أنْ يتواردوا على السُّكوتِ عن الكفرِ والنفاقِ والفِسقِ؟!!
وأمَّا ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما فقد قيلَ له: هل لك في أميرِ المؤمنين معاويةَ؛ فإنه ما أوترَ إلا بواحدةٍ؟! فقال رضيَ اللهُ عنه: "إنه فقيهٌ"(15)، وكان يقولُ عن معاويةَ: "ما رأيتُ رجلًا كان أخْلَقَ للمُلكِ من معاويةَ"(16).
فها هو ابنُ عباسٍ وهو من آلِ البيتِ، وممَّن كان مع عليٍّ، يصِفُ معاويةَ بتلك الأوصافِ، فهل من المقبولِ عَقْلًا أنْ يقولَ هذا القولَ في رجلٍ يراه كافرًا أو فاسقًا أو منافقًا؟!
والذي يستقرئُ حالَ مُجمَلِ الصحابةِ، ومواقفَهم من معاويةَ قبْلَ مُلكِه وبعدَه يجِدُ أنها تسيرُ على وَتيرةٍ واحدةٍ، وأنه كان يسودُ بينهم حالةٌ من الرِّضا والقَبولِ لدِينِه وحُكمِه.
وقد مدَحَه عددٌ من أجِلَّةِ الصحابةِ كسعدِ بنِ أبي وقاصٍ وابنِ عُمرَ وأبي هُرَيرةَ وأبي الدَّرْداءِ وأبي سعيدٍ الخُدْريِّ وعائشةَ رضيَ اللهُ عنهم، وأخبارُهم في هذا صحيحةٌ مشهورةٌ، فهل من المقبولِ عَقْلًا أنْ يتواردَ كلُّ هؤلاء الصحابةِ على كِتمانِ العلمِ وبيانِ حالِ معاويةَ لو كان عنده ما يقدَحُ في دِينِه وأمانتِه؟!
بل روَى ابنُ سعدٍ عن أمِّ عَلْقَمةَ أنها قالتْ: قَدِمَ معاويةُ بنُ أبي سُفيانَ المدينةَ، فأرسلَ إلى عائشةَ: أن أَرْسِلي إليَّ بأَنبِجانِيَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وشَعْرِه، فأَرْسَلَتْ به معي، حتى دخلْتُ به عليه، فأخذَ الأَنْبِجانيَّةَ فلَبِسَها، وأخَذَ شَعْرَه فدعا بماءٍ فغَسَلَه، فشَرِبَه وأفاضَ على جِلْدِه"(17).
فلو كان معاويةُ كافرًا أو منافقًا لَمَا أرسلتْ إليه عائشةُ أَنبِجانيَّةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولامتَنعتْ من ذلك.
ثم إنَّه قد روَى عنه عددٌ من الصحابةِ الحديثَ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد جمَعَ أبو نُعَيمٍ الأصْفَهانيُّ عددًا منهم، فقال عن معاويةَ: "حدَّثَ عنه من الصحابةِ: عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ وأبو سعيدٍ الخُدريُّ وأبو الدَّرداءِ وجَريرٌ والنعمانُ وعبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ ووائلُ بنُ حُجرٍ وعبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ"(18)، وقد أحصى بعضُ الباحثين ثلاثًا وعشرين صحابيًّا روَوْا عن معاويةَ الحديثَ، وبعضُ هذه الأسانيدِ جاءتْ في البخاريِّ ومسلمٍ(19)، وقد نصَّ عددٌ من العلماءِ من أهلِ الاستقراءِ على أنه ليس هناك أحدٌ من الصحابةِ والتابعين كان يتَّهِمُ معاويةَ بالكَذِبِ، وفي هذا يقولُ ابنُ تَيميَّةَ عن معاويةَ وعمرِو بنِ العاصِ: "ولم يتَّهِمْهم أحدٌ من أوليائِهم -لا محاربوهم، ولا غيرُ مُحاربيهم- بالكَذِبِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بل جميعُ علماءِ الصحابةِ والتابعين بعدَهم متَّفقون على أنَّ هؤلاء صادقون على رسولِ اللهِ، مأمونون عليه في الروايةِ عنه"(20).
فلو كان معاويةُ كافرًا أو فاسقًا أو منافقًا أو مقدوحًا في دِينِه وأمانتِه؛ فكيف استساغَ أولئك النفَرُ من الصحابةِ الروايةَ عنه؟! وكيف صدَّقوه في حديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟!
ويدُلُّ حالُ الصحابةِ على أنهم كانوا لا يَسكُتون عن أيِّ مُخالَفةٍ تقَعُ في الدينِ، سواءٌ كانت من معاويةَ أو من غيرِه، وقد اختلَفَ أبو ذَرٍّ رضيَ اللهُ عنه مع معاويةَ في اكتنازِ المالِ، وشدَّدَ أبو ذَرٍّ على معاويةَ حتى شكاه إلى عُثمانَ، فهل من المعقولِ أنْ يكونَ معاويةُ متاجرًا في بيعِ الأصنامِ في زمَنِ عُثمانَ -كما جاءَ في القِصَّةِ التي يعتمِدُ عليها الطاعنون- أو كافرًا أو منافقًا أو شاربًا للخَمرِ أو مُستهتِرًا بدينِ اللهِ، ثم يترُكَ أبو ذَرٍّ وغيرُه من الصحابةِ كُلَّ ذلك ويقِفَ معه في قضيةٍ أقَلَّ منها، وهي اكتنازُ المالِ؟! ألَا يدُلُّ اختلافُهم ذلك على أنَّ أبا ذَرٍّ وغيرَه من الصحابةِ لم يجِدوا عند معاويةَ ما يُوجِبُ له الفسقَ والكفرَ، وإلَّا لبادَروا إلى إعلانِ النَّكيرِ عليه؟!
والتقريراتُ والدلائلُ العقليَّةُ السابقةُ لا تَعني أنَّ الصحابةَ كانوا يرَوْن معاويةَ مُبرَّأً من الخطأِ، ولكنَّ أخطاءَه عندهم لا تصِلُ إلى الكفرِ والنفاقِ والفسقِ والقَدْحِ في دِيانتِه.
فليس هناك شكٌّ في العقلِ أنَّ عليًّا ومَن معه من الصحابةِ كانوا يرَوْن أنَّ معاويةَ مُخطئٌ في قِتالِه لعليٍّ، وكثيرٌ من الصحابةِ كان يرى هذا الرأيَ، خصوصًا بعد قتْلِ عمَّارِ بنِ ياسرٍ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "وَيْحَ عمَّارٍ تقتُلُه الفئةُ الباغيةُ! عمَّارٌ يدعوهم إلى اللهِ، ويَدعونه إلى النارِ"(22).
ولكنَّهم لم يُبالِغوا في الحُكمِ على معاويةَ ولم يُصدِروا أحكامًا جائرةً، فلم يحكُموا عليه بالكفرِ ولا بالفسقِ ولا بالنفاقِ ولا بالقدحِ في الدينِ، وإنما عدُّوه مُجتهدًا مُتأوِّلًا.
ومن أمثلةِ مواقفِ الصحابةِ من أخطاءِ معاويةَ: ما ذكَرَه المِسْوَرُ بنُ مَخْرَمةَ رضيَ اللهُ عنه، وهو من صِغارِ الصحابةِ، أنَّ معاويةَ قال له: يا مِسْوَرُ! ما فعَلَ طَعْنُك على الأئمَّةِ؟ قال: دَعْنا من هذا وأحسِنْ. قال: لا واللهِ! لَتُكلِّمَنِّي بذاتِ نَفْسِكَ بالذي تَعيبُ عَلَيَّ! قال مِسوَرٌ: فلم أترُكْ شيئًا أَعيبُه عليه إلا بيَّنْتُ له. فقالَ: لا أَبرَأُ من الذنْبِ! فهل تَعُدُّ لنا يا مِسْوَرُ ما نَلِي من الإصلاحِ في أمرِ العامَّةِ -فإنَّ الحسنةَ بعَشْرِ أمثالِها- أم تعُدُّ الذنوبَ وتَترُكُ الإحسانَ؟! قال: ما نَذكُرُ إلَّا الذنوبَ! قال معاويةُ: فإنَّا نَعترِفُ للهِ بكلِّ ذنبٍ أَذنَبْناه، فهل لك يا مِسْوَرُ ذُنوبٌ في خاصَّتِكَ تخْشى أنْ تُهلِكَكَ إنْ لم تُغفَرْ؟ قال: نعم! قال: فما يَجعَلُك برجاءِ المغفرةِ أحَقَّ مني؟! فواللهِ ما ألي من الإصلاحِ أكثرَ مما تَلي، ولكنْ واللهِ لا أُخيَّرُ بين أمرينِ: بين اللهِ وبين غيرِه؛ إلَّا اخترتُ اللهَ على ما سِواه، وإني لَعَلى دينٍ يُقبَلُ فيه العمَلُ؛ ويُجْزى فيه بالحَسَناتِ؛ ويُجْزى فيه بالذنوبِ؛ إلا أنْ يعفُوَ اللهُ عنها. قال: فخَصَمَني! قال عُروةُ: فلم أسمَعِ المِسْوَرَ ذَكَرَ معاويةَ إلا صلَّى عليه"(23).
فهذا الأثَرُ يدُلُّ على أنَّ الأخطاءَ التي ذكَرَها المِسوَرُ في معاويةَ ليست أخطاءً كبيرةً تُوجِبُ الكفرَ أو النفاقَ أو الفسقَ، ولو كانت كذلك لمَا أقرَّهُ المِسْوَرُ على أنها مغفورةٌ بالحَسَناتِ والأعمالِ الصالحةِ.
وكذلك عائشةُ رضيَ اللهُ عنها أنكرَتْ على معاويةَ قَتْلَه حُجْرَ بنَ عدِيٍّ وأصحابَه من أهلِ العراقِ، ولكنَّ معاويةَ بيَّنَ لها حُجَّتَه وتأوُّلَه، وأنه خشِيَ أنْ يُحدِثَ فتنةً في الناسِ بإعلانِه القُوَى على إمامتِه، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: "مَن أتاكم وأمرُكمْ جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يريدُ أنْ يشُقَّ عَصاكم، أو يُفرِّقَ جماعتَكم فاقتُلوه"(24)، وقال لها: "وأمَّا حُجْرٌ وأصحابُه، فإنَّني تخوَّفْتُ أمرًا، وخَشِيتُ فِتنةً تكونُ تُهراقُ فيها الدِّماءُ وتُستحَلُّ فيها المحارمُ وأنت تَخافيني، دَعيني، واللهُ يفعَلُ بي ما يشاءُ، قالت: تركتُكَ واللهِ، تركتُكَ واللهِ، تركتُكَ واللهِ"(25).
وهذا الموقفُ الإعذاريُّ الذي اتخذَتْه عائشةُ من معاويةَ هو الموقفُ نَفسُه الذي اتخَذَه أبو بكرٍ وعُمَرُ من خالدٍ حين قتَلَ مالكَ بنَ نُوَيرةَ مع أنَّه أعلنَ إسلامَه، فمع أنَّهم حكَموا بخَطِئِه، وأنكَروا فِعلَه، إلَّا أنهم لم يُفسِّقوه ولم يُكفِّروه ولم يَقدَحوا في دِينِه، ومُستنَدُهم في ذلك موقِفُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من أُسامةَ وخالدِ بنِ الوليدِ حين قتَلا مَن أعلَنَ إسلامَه.
ثُمَّ إذا انتقَلْنا إلى تلاميذِ الصحابةِ وتلاميذِ تلاميذِهم من التابعين وأتباعِهم، وهم الأعلَمُ بمواقفِ الصحابةِ والأكثَرُ فِقهًا لآرائِهم وأُصولِ مَذهبِهم، والأعمَقُ في تصوُّرِ عقيدتِهم، وهم الأشَدُّ حِرصًا على اتِّباعِ الصحابةِ والتمسُّكِ بما كانوا عليه من دينٍ، وهم كذلك أعدادٌ كبيرةٌ جِدًّا، وقد عاشَ كثيرٌ منهم بعد انتهاءِ دولةِ بني أُميَّةَ.
هذه الشواهدُ التاريخيَّةُ والدَّلالاتُ العقليَّةُ تُكوِّنُ لدينا تَرسانةً عِلميَّةً صُلبةً في التعامُلِ مع معاويةَ رضيَ اللهُ عنه، وتكشِفُ لنا عن حقيقةِ نَظرةِ الصحابةِ إليه، وتعامُلِهم معه، وهي لا شَكَّ ستُعينُ القارئَ في تاريخِ معاويةَ على فَهمِ كثيرٍ من النُّصوصِ الشرعيَّةِ التي جاءت في حقِّه، وتُعينُه على تَوسيعِ أُفُقِه في التعاملِ مع مَشاهدِ سيرتِه، ولا يجوزُ في موازينِ المَنهجيَّةِ العِلميَّةِ القفْزُ عليها أو تجاوُزُها ما لم نُقدِّمْ عنها جوابًا مُقنِعًا.
وتعامُلاتُ الصحابةِ تلك تُمثِّلُ عَقَبةً كبيرةً أمامَ القادحين في معاويةَ لإقناعِ المسلمينَ برأيِهم؛ إذْ كيف يَقتنِعُ المسلمون بأنَّ معاويةَ كان كافرًا أو منافقًا أو فاسقًا أو فاسدَ الدِّيانةِ وهم يَعلمون مواقفَ الصحابةِ معه؟!
ولا بُدَّ من التنبيهِ في خِتامِ هذه الورقةِ التقريريَّةِ المُختصَرةِ أنَّه لم يكُنِ القصدُ منها استيعابَ كلِّ ما يتعلَّقُ بمعاويةَ رضيَ اللهُ عنه من النصوصِ الشرعيَّةِ وغيرِها، وإنَّما القصدُ دِراسةُ وتحليلُ مواقفِ الصحابةِ فقطْ.
ولا بُدَّ من التنبيهِ على أن الغالينَ في ذمِّ معاويةَ قد ذكَروا أخبارًا وآثارًا كثيرةً تدُلُّ في ظاهرِها على أنَّ الصحابةَ كانوا يقدَحون في معاويةَ ويذُمُّونه، ولكنَّ هذه الأخبارَ كُلَّها ليستْ صحيحةً ولا ثابتةً، وقد قام عددٌ من الباحثين المُعاصِرين برَصدِ تلك التُّهَمِ والأخبارِ، وقاموا بدِراستِها حَديثيًّا وتاريخيًّا، وأثبَتوا بُطلانَها وخطَأَها، ومِن أجمَعِ البُحوثِ التي قامتْ بذلك كتابُ (سَلِّ السِّنانِ في الذبِّ عن معاويةَ بنِ أبي سُفيانَ)، فقد جُمِعَ فيه كُلُّ ما أُثيرَ ضِدَّ معاويةَ، وأجابَ الكتابُ عنها جوابًا مُفصَّلًا.
ثم إنَّ ما كان منها صحيحًا؛ فإنه لا يدُلُّ على مِقدارِ الحُكمِ الجائرِ الذي وصَفوا به معاويةَ!!
------------------------------------
(1) سِيَرُ أعلامِ النُّبَلاءِ, الذَّهبيُّ (3/128).
(2) الموضوعاتُ, ابنُ الجَوزيِّ (2/249).
(3) انظُرْ في إثباتِ ضَعفِ هذه الأخبارِ: سَل السِّنانِ في الذبِّ عن معاويةَ بنِ أبي سُفيانَ, سعد السبيعي (197) – نسخة إلكترونية.
(4) كونُ معاويةَ كان كاتبًا للنبيِّ عليه السلامُ أخرجَه مسلمٌ (2501).
(5) أخرَجَه: أحمدُ في المُسنَدِ (17929), والتِّرمذِيُّ في السُّنَنِ( 3843) وابنُ سَعدٍ في الطَّبقاتِ (7/417), والآجُرِّيُّ في الشريعةِ (1914), وصحَّحَه عددٌ من العلماءِ.
(6) أخرجَه: البخاريُّ (2766).
(7) انظُرِ: البداية والنهاية, ابنُ كثيرٍ (11/399 ) وسِيرَ أعلامِ النُّبلاءِ, الذهبيُّ (3/132).
(8) أخرَجَه مُسلمٌ (567).
(9) سِيَرُ أعلامِ النُّبلاءِ, الذهبيُّ (3/132).
(10) مَجموعُ الفَتاوى, ابنُ تَيميَّةَ (35/65).
(11) أخرَجَه: ابنُ أبي شَيْبةَ (15/303), وسَنَدُه صحيحٌ.
(12) انظُرْ خبَرَ ذلك في: مُصنَّف ابنِ أبي شَيْبةَ (39007).
(13) أخرجَه: البخاريُّ (2704).
(14) نقَلَه أبو زُرْعةَ الرَّازيُّ في تاريخِه (1/189).
(15) أخرَجَه: البُخاريُّ (3765).
(16) أخرَجَه: معمرٌ في جامِعِه المطبوعِ مع مُصنَّفِ عبدِ الرزَّاقِ ( 20985), وإسنادُه صحيحٌ.
(17) الطبقاتُ الكُبرى, ابنُ سَعدٍ (1/112), وسنَدُه لا بأسَ به.
(18) معرفةُ الصحابةِ, أبو نُعَيمٍ (5/2497).
(19) انظُرْ: سَلُّ السِّنانِ في الذبِّ عن معاويةَ بنِ أبي سُفيانَ (15).
(20) مَجموعُ الفَتاوى, ابنُ تَيميَّةَ (35/66).
(21) انظُرْ خبَرَ ذلك في: تاريخِ خليفةَ خياط (213-214).
(22) أخرَجَه: البخاريُّ (2657).
(23) أخرَجَه: مَعمَرٌ في الجامعِ – المطبوعِ مع مُصنَّفِ عبدِ الرزَّاقِ (20717), وابنُ سعدٍ في الطبقاتِ (1/123), وقال ابنُ عبدِ البَرِّ عن هذا الأثَرِ: وهذا الخبَرُ من أصَحِّ ما يُروى من حديثِ ابنِ شِهابٍ". الاستيعابُ في معرفةِ الأصحابِ (3/1422), وصحَّحه عددٌ من العلماءِ.
(24) أخرجَه: مسلمٌ (4904).
(25) أخرَجَه: ابنُ عَساكرَ في تاريخِه (12/230).
No comments:
Post a Comment