Thursday, July 13, 2023

كيف ضل الخط العربي طريقه؟ بقلم علي أبو الريش

إنه الفكر الإنساني عندما يخل ويزل ويحيك حلمه في ساعة متأخرة من الوعي، وعندما تفقد بوصلة الحلم فن اقتياد الجياد إلى إصطبلات الفروسية الجامحة باتجاه الجمال، وحسن سيرة الذاكرة الجماعية.
اليوم وقد تركت ريشة الخط العربي للآلة الكاتبة، أصبح من اللا معقول الاستناد إلى حبر الزمن الجميل، واستعيض بنقرات الجهاز السحري كي يقوم بمقام الأنامل التي خطت، ورسمت في الوعي معنى الجمالية على ورقة بيضاء ناصعة من غير سوء.
هذه النفرة، هي في الحقيقة تعبر عن واقع إنساني استولت على مفاصل وعيه مخالب الثورة العلمية الهوجاء، ونالت من مشاعر الجمالية ما أفقدها سحر الذات عندما تكون حرة ومن غير خدوش ولا رتوش تعرقل خطوات الريشة على منبت الإبداع، وكيف لا ونحن أصبحنا أسرى طقطقات الآلة وتروس في ماكينتها.
من يراقب سلوك جيل بأكمله يرى في القلوب ما أصاب الجفاف أراضي ذلك الوجدان، فجعله شاحباً إلى حد الرداءة، مكفهراً إلى درجة العتمة لأن الجفاف العاطفي وليد نهارات غابت عنها شمس الجمال والذي بدوره الصانع الأول لمجريات الدم في عروق الإنسان، وهذا الإنسان قد فقد طريقه إلى تلمس الروح الجمالية في الأشياء من حوله.
لا ندين الآلة بقدر ما نلوم الإنسان الذي قبل أن يكون جزءاً من مكونات الآلة وليس قائداً لها، فهو الكائن العاقل الذي سلبته الآلة حقه في الشروع في صناعة الجمالية في كل شيء، وما دام وقف عند حافة التزلف لحجر الآلة، فمن الطبيعي أن يفقد قدرته على التأمل. وإمكانية تلمس ذلك الجزء الشفاف ملكة العقل، حيث أصبح العقل مجرد ماكينة تدور رحاها برتابة ومن دون وعي بأهمية أن نكون عشاقاً، وهي العاطفة الجزيلة التي تمنحنا مجال حب الأشياء في الطبيعة، والطبيعة ليست إلا مخزن الأحلام المرهفة التي علقناها منذ زمن على مشجب تسوطه الشمس الحارقة، وتجعل منه أحفورة بائسة لا نفع منها سوى أنها مكان للذكرى.
اليوم نتذكر ذلك المدرس النبيل الذي يمسك بطرف أيدينا المرتجفة ويسير بالقلم رويداً رويداً حتى نكمل جملة مفيدة مزخرفة بفن خط عربي له ميزته الفريدة التي لا توازي مكانتها أي لغة في العالم.
ليس هذا تحيزاً للغة الضاد وإنما هذه هي فطرة لغتنا، وهذه سجيتها التي كسرنا ريشتها عندما اعتقدنا بأن الجهاز الجامد يمكن أن يكون البديل الأفضل لصناعة الجمال.
اليوم ونحن نعيش في قلب معمعة القرن الواحد والعشرين، يشعر الخط العربي بوحشة مهيبة وينتابه الجزع عندما تصبح اللوحة فارغة من لمس الأنامل الرقيقة، وعندما تكون الكلمات المكتوبة بخط النسخ أو الرقعة مجرد ذكرى لزمن بائد.
نحن بحاجة إلى مبراة جديدة تعيد سن القلم لكي يكتب من جديد ولا يستمع كثيراً لنقرات الجهاز الأصم، بحاجة إلى مدرس يعلمنا كيف لا نحيد ذاكرة القلم.
المصدر 
جريدة الاتحاد

No comments:

Post a Comment

اتفاقية 1970: التنوّع الثقافي قبل الآوان

تعتبر اتفاقية اليونسكو، التي اعتُمدت سنة 1970، أداة قانونية رائدة في مكافحة النهب والاتجار غير المشروع، وقد مهّدت الطريق أمام حق الشعوب في ا...