Thursday, March 26, 2009

باب الشمس

"باب الشمس"
الوجوه الأخرى للحكاية الفلسطينية

عمرو عزت

تقول "أم حسن" القابلة: "نحن لم نعرف فلسطين إلا بعد أن بدأنا نفقدها"، وهكذا أيضا فعل "يونس" الراقد أمامها في غيبوبة لا يفيق منها، فهو لم يعرف زوجته نهيلة ولم يحبها إلا بعد أن فرقتهم نكبة فلسطين فالتحق هو بالمقاومة في لبنان وبقيت هي في قريتهم المحتلة تواجه الحياة تحت الاحتلال.
"أم حسن" تنفي قصة الحب التي يرويها الدكتور خليل عن يونس ونهيلة وتقول: "نحن فلاحون لا نعرف العشق"، ولكن خليل الابن الروحي ليونس يعرف الحكاية السرية للمناضل الذي كان يتسلل عبر الحدود، ليلتقي زوجته في مغارة تسمى "باب الشمس".

"من الأَوَّل"
حول قصة الحب التي نشأت متأخرة بين الزوجين، نسج المخرج يسري نصر الله الجزء الأول "الرحيل" من فيلمه "باب الشمس"، وعرض على مرآة هذه القصة، الحكاية الكبرى المعروفة عن بداية التراجيديا الفلسطينية في الأربعينيات من القرن الماضي.

أما "العودة" (الجزء الثاني) فيعرض لمراحل العجز والخيبات من السبعينيات إلى التسعينيات عبر قصة الحب الملتبسة للدكتور خليل مع "شمس" المناضلة الغامضة.

الفيلم المأخوذة قصته عن رواية بنفس الاسم للأديب إلياس خوري يحاول أن يدلف إلى قضية فلسطين ليعيد سردها من البداية عبر قصتي حب يمتدان عبر زمنين متداخلين، يرسمان صورا للفرد الفلسطيني الذي صار مجرد كومبارس في حكاية كبرى يلعب دور البطولة فيها كبار الساسة وقادة النضال والمفاوضات، في "باب الشمس" يعود الفرد الفلسطيني ليصبح بطل الحكاية ومبدأها ومنتهاها.


غلاف الرواية

إمعان الرواية والفيلم في الحكي الحميم الخاص عن هؤلاء الأفراد ينتهي بنا إلى العام والجماعي في جدلية صارت قدرا للفرد الفلسطيني والوطن الفلسطيني على حد سواء.

فعبر قصة الحب الأولى يتزوج يونس الفتى نهيلة الصبية -التي لم يرها مسبقا- زواجا تقليديا. ويتركها صبيحة الزفاف ليتدرب مع المقاتلين في كتائب المقاومة، نهيلة الصبية تود أن تخرج مع المقاتلين إلا أن الواقع الاجتماعي لا يسمح لها سوى أن تتعلم القراءة والكتابة على يد أبي يونس الشيخ الضرير، في قريتهم يحاول معلم الكتاب عبثا أن يفهم أولاد الفلاحين أن وطنهم ليس قريتهم الصغيرة، وإنما فلسطين التي يراد تقسيمها بين العرب واليهود، لم يتخلق الوعي الجماعي لهؤلاء بفلسطين الوطن سوى عندما جمعتهم مأساة التهجير والطرد من قراهم.

جيش الإنقاذ العربي يراقب في انتظار الأوامر التي لا تأتي، وفي المرة الوحيدة التي يرتجل فيها قائد كتيبة في هذا الجيش ليحمي بمدفعيته محاولة يائسة لعودة أهل القرية المطرودين، يطلق الرصاص على نفسه قبل أن يطلقوه "هم" عليه بعد محاكمته لمخالفته الأوامر التي تقضي بانتظار اللاشيء.

المقاومة الشعبية بارتجالها وقلة حيلتها تفشل في الصمود في وجه الصهاينة، ولكنها تحاول في جسارة وعناد، وتعاود الكرة بعد كل تقهقر... يونس كان يقف وقتها رافعا سلاحه ضاربا الأرض بقدمه صائحا: "من الأول... من الأول".

المقاومون ومعهم يونس يرحلون إلى لبنان، نهيلة تقرر الانتظار والصمود، فيما بعد سيتسلل يونس في رحلات متفرقة ليلتقي زوجته في "باب الشمس"، وينجب منها أولادا لن يراهم أبدا.

في مخيمات اللاجئين بلبنان يلتقي يونس بخليل الابن الذي مات والده بينما أمه في رام الله ويتعهده بالرعاية ويضمه لعناصر المقاومة.

خليل الذي سيتلقى دورة عسكرية في التمريض سيصبح اسمه لاحقا الدكتور خليل، وفي الثمانينيات سيرفض الخروج من لبنان مع منظمة التحرير تحت حراسة الأمريكيين والصهاينة، وسيبقى في المخيم ليلتقي "شمس" التي انفصلت عن زوجها السادي والتي لم ترحل مثله، وتنشأ بينهما قصة الحب الأخرى التي لا تصل للزواج، "شمس" التي أجبرت على ترك ابنتها بعد طلاقها، تقيم علاقة بشخص آخر عسى أن يساعدها في العودة ورؤية ابنتها وستقتله عندما تكتشف أنه يغرر بها، ثم تدفع حياتها ثمنا لذلك.

خليل الذي سيعيش على أطلال قصة الحب الفاشلة والملتبسة سيمكث بجوار يونس أبيه الروحي الراقد في غيبوبة، يحكي قصتيهما ويحلم باستيقاظ يونس ليعودا معا إلى "الجليل" ليموت يونس كبطل في وطنه وليس كمريض في مستشفى ولاجئ في مخيم.



"الحب على الطريقة الفلسطينية"
في مخيمات الشتات

يونس الذي لم يعرف زوجته نهيلة إلا بعد أن أصبح لاجئا في مخيم هو نفسه الفلاح الفلسطيني الذي لا يعرف معنى "الوطن الكبير"، ولكنه يعرف جيدا اسم قريته ويعرف الشمال والجنوب من هبوب الريح ويعشق بيارات البرتقال وطعم الزيتون. وهو الذي سيهوى وطنه إلى حد الموت عندما يصبح لزاما أن يتسلل إليه، وأن يقاتل على تخومه، بينما هو أسير في أيدي الغاصبين مثلما هي نهيلة التي تضطر للعمل عند المستوطنين لتطعم عيالها.
يونس الذي يختلس لحظات ليلتقي زوجته، هو نفسه المناضل الفلسطيني اللاجئ المشرد المحروم من أرضه إلا تسللا وخلسة.

نهيلة الفلاحة التي تحاول التعلم وتذوق الشعر هي الوطن الذي سيعي نفسه عندما يحاول الخروج من أسر التقاليد ليدافع عن نفسه واكتشاف هويته التي يتهددها الضياع، فليس بالبندقية وحدها التي يحملها الرجال يكون الوطن.

قصة يونس ونهيلة هي قصة حب على الطريقة الفلسطينية، القصة التي لا يلتقي طرفاها إلا سرا، لقاءً أشبه ما يكون بالرمزي أو الأسطوري أو المتخيل.

أما قصة خليل وشمس فهي قصة حب المخيمات، اللقاء الدائم بالوطن الذي اتخذ المخيم موطنا، ولكن يظل اللقاء دائما خارجا عن الشرعية، يدور في فلك من الانتظار والالتباس، بين الخيبات والتخبط.

"شمس" وعذاباتها الشخصية صورة الوطن المطعون في ظهره من خيانات الأهل، "شمس" وعلاقاتها المتعددة غير الشرعية صورة الوطن الموزع شرفه بين اتفاقات التخاذل وتحالفات الاستجداء وانتظار النصرة بينما ما زال أمله اليائس في بندقيته هو قدره.

مقتل "شمس" على يد العصبة الخارجة على القانون والنظام، صورة الفوضى والتشرذم اللذين يتجاوران مع أخلاق التضامن القبلي والنخوة العربية.




"طعم البرتقال"





معاناة

في أحد المشاهد تُحضر "أم حسن" في زيارة لقريتها برتقالا من إحدى البيارات، وعندما يهم أحد ما لأكل البرتقال تصيح: "لا... هذا ليس للأكل... هذا فلسطين"، في مشهد آخر في المخيم يقشر يونس البرتقال ويدفعه في فم خليل.
الفيلم في أحد أوجهه مقابلة بين جيلين عاشا معنيين للوطن، الأول عاش معنى الوطن، وذاق طعم البرتقال وجمعه من أشجاره، يكفيه أن يعلق أغصان البرتقال في ركن بيته ليتذكر وطنه المستلب، الجيل الآخر ولد في المخيم، فقط سمع عن البرتقال والبيارات، لذا فإنه بحاجة لتذوق معنى الوطن الذي ولد فوجد نفسه يقاتل ليعود إليه دون أن يراه ولو لمرة.

بين الجيلين مسافة زمنية شاسعة، مسافة بين براءة النضال الأول ووحدته وبين اختلاط الأوراق في الجيل الثاني، بين "يونس" الذي تعلم استخدام السلاح في قريته، وربما لم يتلق أي قدر من الثقافة سوى القراءة والكتابة، وحفظ القرآن، وخليل المثقف اليساري الذي تلقى دورات تدريبية في "الصين" وتربى وعيه على صور جيفارا وماوتسي تونج ولوثر كنج وسائر الثوار في العالم.

الجيل الأول في نهاية رحلته الارتجالية افتقد للرؤية في طريقه المسدود، والجيل الثاني رغم وعيه المفتوح ما يزال في أسر أبوة الجيل الأول، كما ظل خليل ملازما لسرير يونس في المستشفى معتزلا العالم!

الجيل الأول رحلته رحلة رحيل والآخر رحلته رحلة عودة. وبينهما الرحلة المشتركة من التشرد والعذابات والبطولات والخيبات!


"الوجوه الأخرى"

كفاح الشعب الفلسطينى

سيناريو "باب الشمس" الذي اشترك في صياغته المخرج يسري نصر الله وكاتب الرواية إلياس خوري بالإضافة للناقد والأديب محمد سويد، لم يكتف بإبراز الوجه الموازي للملحمة الفلسطينية عبر قصتي الحب المحوريتين، وعبر التفاصيل والشخوص البينية التي لا يمكن الإحاطة بها إلا بسرد الفيلم مشهدا مشهدا... ولكنه أيضا قدم وجوها أخرى للحكاية، غير الوجوه المعروفة المكرورة وذائعة الصيت.
فالكل يعرف حكاية تشريد وتهجير أهالي القرى الفلسطينية، ولكن القليل من يعلم قصص من بقوا منهم في أراضيهم، وكيف اضطروا مثل نهيلة وأولادها للعمل لدى المستوطنين اليهود بل وتعلم العبرية لكي يستطيعوا البقاء على قيد الحياة.

الكل يعرف حكاية المناضلين على الحدود في لبنان والأردن، ولكن من يعلم قصص العلاقة بين هؤلاء المناضلين بين ذويهم في الداخل.

التاريخ الرسمي يروي قصص رحيل جماعات المقاومة الفلسطينية من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي ولكن الفيلم قدم قصة "خليل" و"شمس" اللذين لم يرحلا إلى تونس أو اليمن.

التاريخ المعاصر يحفل بقصص اللاجئين الذين يودون الخروج عبثا من المخيمات والاندماج في المجتمع اللبناني، ولكن الفيلم يصور لنا "خليل" الذي يخشى الخروج من المخيم، ويتوجس شرا من المجتمع اللبناني الذي نازل بعض فصائله أثناء الحرب الأهلية.

التأريخ العربي النضالي يمجد المقاومين الفلسطينيين في مواجهة من دعوا لإخراجهم من لبنان، الفيلم يقدم صورة متوازنة لهم بمآثرهم وخطاياهم.

الخطاب العربي يدين الغرب لتواطئه وتخاذله بل واشتراكه أحيانا، الفيلم يقدم صورة لمثقفي الغرب المستقلين والشرفاء في شخصية الممثلة الفرنسية التي تريد عمل مسرحية عن مجزرة صبرا وشاتيلا، وتحاول التعرف على أجواء المخيم والحياة داخله.

عادة، لا نرى سوى صورة للمرأة الفلسطينية بزيها التقليدي وزغاريدها مع دموعها فرحا وحزنا لاستشهاد ابنها، الفيلم يقدم صورة نهيلة المتمردة التي تقود قريتها والتي تطمح للتعلم مثل الرجال وتتخذ قراراتها باستقلالية بموازاة زوجها، بالإضافة إلى شمس المناضلة التي تمسك المسدس وترتدي البنطلون، والتي طالها عسف زوجها "المناضل أيضا"، ولكن غير المثالي على عكس الصورة النمطية.

ربما كانت تلك الوجوه الأخرى أصداء للأسلوبين الروائي والسينمائي المعاصرين الذين يحتفيان بالهامشي والمتمرد، ولكنها في الوقت نفسه وجوه ضرورية لنرى الصورة كاملة بلا رتوش، لنعترف بأخطائنا وخطايانا باعتبارنا بشرا، ونحن نطالب بحقوقنا باعتبارنا بشرا أيضا، وليس بالضرورة أبطالا استثنائيين.

في الواقعية الجنسية!

يسري نصر الله في "باب الشمس" يلتزم الواقعية التي لا تتجمل، وإنما تسفر عن نفسها عبر جماليات متنوعة تشمل لحظات البطولة إلى جانب لحظات الضعف، وهو بذلك يستكمل مشروعه السينمائي الذي لا يرى في الفرد مجرد جزء من الصورة وإنما المرآة التي نرى فيها وعبرها العالم بأسره.

وعندما اختار أن يقدم عملا عن القضية الفلسطينية لم يسقط في فخ المباشرة والخطابية، ولم يستسلم لجماعية القضية، ولم يخذلها أيضا، وإنما قدمها في إطار مشروعه وبأسلوبه الخاص.

لم يحاول الفيلم أن يقدم معنى لفلسطين قبل تقسيمها كوطن ودولة بالمعنى السياسي المعاصر، وإنما قدمه من خلال المعنى الإنساني الشعبي للوطن الذي يتمثل في التقاليد والعادات الشعبية والطقوس اليومية للفلاحين أثناء جمع البرتقال والزيتون وأثناء زراعة الأرض وفي الأعراس، وفي الفيلم جهد واضح في مقاربة الفلكلور الفلسطيني في الملابس والأغاني.

هذه الناحية تبرز وعي الفيلم الذي أنتج أساسا ليتوجه لا للمشاهد العربي وحده وإنما للمشاهدين الغربيين أيضا، فهو لا يدخل في سجال سياسي وقانوني حول أكذوبة كون فلسطين أرضا بلا شعب قبل الاستيطان وإنما يقدم في بساطة هذا الشعب عبر ثقافته وتقاليده.

ورغم القفزات العديدة والمتسارعة في الفيلم والتنقل الزمني عبر استرجاع وتذكر الأحداث أو التنقل بين الحقيقي والمتخيل وبين الواقع والحلم فإن السيناريو نجح في ربط هذه القصاصات والشذرات بخيط شعوري لم يقطعه سوى طول بعض اللقطات التسجيلية التي وسمت بعض مشاهد الجزء الأول، وبشكل أقل بعض مشاهد الجزء الثاني.

ربما شاب الجزء الأول مسحة تسجيلية في مشاهده الجماعية الكثيرة وإن توازنت معها مشاهد يونس ونهيلة في مغارة باب الشمس، ولكن في الجزء الثاني يبرز "باسل خياط/خليل" كبطل سينمائي تجتمع عنده خيوط الحكاية، ويبدو ظاهرا حضوره كبطل يتوحد معه المشاهد، وهو ما افتقده "عروة النبروبي/يونس" بشكل ما في الجزء الأول أمام الحضور القوي لـ"ريم تركي/نهيلة".

المثير للتساؤل هو "الافتتاحيات الجنسية" التي بدأ بها يسري نصر الله مشاهد كل من الجزأين، هذه المشاهد الحميمة تختلف في أسلوبها عن أساليب الإغراء المعروفة في الأفلام التجارية، وتقترب أكثر من الأسلوب الأوربي في إبراز جماليات الجنس والاحتفاء بها باعتبارها مجالا أساسيا من مجالات الفردية، وهو ما يصادم الذائقة العربية والأخلاق والثقافة الإسلامية والتي وإن كانت لا تتنكر لهذه الجماليات ولكنها تتحفظ ضد إظهارها وإشاعتها على هذا النحو.

باستثناء ما سبق من تحفظ، فإن الصورة في الفيلم شكلت حالة جمالية موازية، وقاربت كادرات المشاهد اللوحات التشكيلية، فالمشاهد الخارجية الصباحية تخللها شعث أشعة شمس ساطعة، والمسائية أضاءها ضوء قمري شفيف، ظهر الاهتمام بالديكور سواء في البيوت البسيطة في القرى الفلسطينية أو البيوت الضيقة العشوائية في المخيم أو ذلك الذي جسد حالة العراء والإهمال والفقر في مستشفى المخيم.

إلى جانب الصورة، تأتي موسيقى تامر كروان -رفيق رحلة يسري نصر الله السينمائية- التي أضفت بتيمات تراثية أجواء شجن حميمة، كما قام تامر كروان بمغامرة إعادة تلحين قصيدة "يبكي ويضحك" التي لحنها الرحبانية، وتغنت بها فيروز، ونجح في تقديمها بشكل متميز ومختلف... وترك يسري نصر الله مساحات أخرى للصمت يوظفها أسلوبه للغوص في المشهد ونفسية الشخوص في حرية بعيدا عن مؤثرات الموسيقى.

في نهاية الفيلم يتوفى "يونس" في المستشفى، ويبدأ خليل رحلة العودة إلى فلسطين، بينما -في زمن آخر– توصي نهيلة أولادها قبيل موتها بسد باب مغارة باب الشمس كي لا تدنسه أقدام المحتلين، ويقوم أولادها بنثر الزهور في أرجاء المغارة ثم سد بابها تدريجيا حتى تظلم الصورة تماما... يد مجهولة تنتشلنا لثوان من عتمة اليأس لتنير شرارة ما، نلقي خلالها نظرة أخيرة على "باب الشمس".

المصدر

http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1179664414502&pagename=Zone-Arabic-ArtCulture%2FACALayout#up

No comments:

Post a Comment

اتفاقية 1970: التنوّع الثقافي قبل الآوان

تعتبر اتفاقية اليونسكو، التي اعتُمدت سنة 1970، أداة قانونية رائدة في مكافحة النهب والاتجار غير المشروع، وقد مهّدت الطريق أمام حق الشعوب في ا...